قرأ أبو بكر برواية يحيى من لدنه بإشمام الدال الضم و كسر الهاء و النون و قرأ الباقون بضم الدال و سكون النون و في الشواذ كبرت كلمة برفع كلمة قرأه يحيى بن يعمر و الحسن و ابن المحيصن و ابن أبي إسحاق و الثقفي و الأعرج بخلاف و عمرو بن عبيد.
الحجة
قال أبو علي في لدن ثلاث لغات لدن مثل سبع و يخفف الدال و يكون على ضربين (أحدهما) أن يحذف الضمة من الدال فيقال لدن (و الآخر) أن يحذف الضمة من الدال و ينتقل إلى اللام فيقال لدن مثل عضد في عضد و في كلا الوجهين يجتمع في الكلمة ساكنان فمن قرأ من لدنه بكسر النون فإن الكسرة فيه ليست كسرة إعراب و إنما هي كسرة لالتقاء الساكنين و ذاك أن الدال أسكنت كما أسكنت الباء في سبع و النون ساكنة فالتقى الساكنان فكسر الثاني منهما فأما إشمام الدال الضمة فليعلم أن الأصل كان في الكلمة الضمة و مثل ذلك قولهم أنت تغرين و قولهم قيل أشمت الكسرة فيهما الضمة ليدل على أن الأصل فيهما التحريك بالضم و إن كان الإشمام في لدنه ليس في حركة خرجت إلى اللفظة و إنما هو بهيئة العضو لإخراج الضمة و أما الجار في قوله « من لدنه » فيحتمل ضربين (أحدهما) أن يكون صفة متعلقا بشديد (و الآخر) أن يكون صفة للنكرة و فيها ذكر للموصوف.
اللغة
العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام و القيم و المستقيم و الباخع القاتل المهلك يقال بخع نفسه يبخعها بخعا و بخوعا قال ذو الرمة:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
يريد نحته فخفف و الأسف المبالغة في الحزن و الغضب يقال أسف الرجل فهو آسف و أسيف قال الأعشى:
ترى رجلا منهم أسيفا كأنه يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
الإعراب
« قيما » نصب على الحال من الكتاب و العامل فيه أنزل و قوله « أن لهم أجرا » تقديره بأن لهم أجرا فحذف الجار و « ماكثين » نصب على الحال في معنى خالدين و قوله « كبرت كلمة » اختلف في نصب كلمة فقال السراج: انتصب على تفسير المضمر على حد قولهم نعم رجلا زيد و التقدير على هذا كبرت الكلمة كلمة ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه و مثله كرم رجلا زيد و لؤم صاحبا عمرو و يكون المخصوص بالتكبير في هذه المسألة محذوفا لدلالة صفته عليه و التقدير كلمة تخرج من أفواههم أي كلمة خارجة من أفواههم فيكون مرفوعا على وجهين (أحدهما) أن يكون مبتدأ و ما قبله الخبر (و الآخر) أن يكون خبر مبتدإ محذوف و تقديره هي كلمة تخرج و قيل انتصب كلمة على التمييز المنقول عن الفاعل على حد قولك
تصببت عرقا و تفقأت شحما و الأصل كبرت كلمتهم الخارجة من أفواههم قال الشاعر:
و لقد علمت إذا الرياح تناوحت هدج الريال تكبهن شمالا
أي تكبهن الرياح شمالا و من قرأ كبرت كلمة فإنه جعل كلمة فاعل كبرت و جعل قولهم « اتخذ الله ولدا » كلمة كما قالوا للقصيدة كلمة و على هذا فيكون قوله « تخرج من أفواههم » في موضع رفع بكونه صفة لكلمة و لا يجوز أن يكون وصفا لكلمة الظاهرة المنصوبة لأن الوصف يقرب النكرة من المعرفة و التمييز لا يكون معرفة البتة و لا يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من كلمة المنصوبة لوجهين (أحدهما) أن الحال يقوم مقام الوصف و الثاني أن الحال لا يكون من نكرة في غالب الأمر و « أسفا » منصوب بأنه مصدر وضع موضع الحال و لو كان في غير القرآن لجاز أن لم يؤمنوا بالفتح كما في قول الشاعر:
أ تجزع أن بأن الخليط المودع و حبل الصفا من عزة المتقطع
المعنى
« الحمد لله » يقول الله سبحانه لخلقه قولوا كل الحمد و الشكر لله « الذي أنزل على عبده » محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) « الكتاب » أي القرآن و انتجبه من خلقه و خصه برسالته فبعثه نبيا رسولا « و لم يجعل له عوجا قيما » فيه تقديم و تأخير و تقديره الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و عنى بقوله « قيما » معتدلا مستقيما مستويا لا تناقض فيه عن ابن عباس و قيل قيما على سائر الكتب المتقدمة يصدقها و يحفظها و ينفي البطل عنها و هو ناسخ لشرائعها عن الفراء و قيل قيما لأمور الدين يلزم الرجوع إليه فيها فهو كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها عن أبي مسلم و قيل قيما دائما يدوم و يثبت إلى يوم القيامة لا ينسخ عن الأصم « و لم يجعل له عوجا » أي لم يجعله ملتبسا لا يفهم و معوجا لا يستقيم و هو معنى قول ابن عباس و قيل لم يجعل فيه اختلافا كما قال عز و جل اسمه و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا عن الزجاج و معنى العوج في الكلام أن يخرج من الصحة إلى الفساد و من الحق إلى الباطل و مما فيه فائدة إلى ما لا فائدة فيه ثم بين سبحانه الغرض في إنزاله فقال « لينذر بأسا شديدا من لدنه » و معناه ليخوف العبد الذي أنزل عليه الكتاب الناس عذابا شديدا و نكارا و سطوة من عند الله تعالى إن لم يؤمنوا به « و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا » معناه و ليبشر المصدقين بالله و رسوله الذين يعملون الطاعات بعد الإيمان أن لهم ثوابا حسنا في الآخرة على إيمانهم
و طاعاتهم في الدنيا و ذلك الثواب هو الجنة « ماكثين فيه أبدا » أي لابثين في ذلك الثواب خالدين مؤبدين لا ينتقلون عنه « و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا » أي و ليحذر الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله و هم قريش عن الحسن و محمد بن إسحاق و قيل هم اليهود و النصارى عن السدي و الكلبي فعم جميع الكفار بالإنذار في الآية الأولى و خص في هذه الآية القائلين بهذه المقالة منهم لتقليدهم الآباء في ذلك و لإصرارهم على الجهل و قلة التفكر و لصدهم الناس عن الدين « ما لهم به من علم و لا لآبائهم » أي ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع علم به و لا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل ما هم عليه اليوم و إنما يقولون ذلك عن جهل و تقليد من غير حجة و قيل معناه ليس لهم بالله من علم و لا لآبائهم « كبرت كلمة تخرج من أفواههم » أي عظمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء الكفار و وصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسعا و مجازا و إن كانت الكلمة عرضا لا يجوز عليها الدخول و الخروج و لا الحركة و السكون و لكن لما كانت الكلمة قد تحفظ و تثبت و توجد مكتوبة و مقروءة في غير الموضع الذي فعلت فيه وصفها بالخروج و ذكر الأفواه تأكيدا و المعنى أنهم صرحوا بهذه الكلمة العظيمة في القبح و أظهروها « إن يقولون إلا كذبا » أي ما يقول هؤلاء إلا كذبا و افتراء على الله « فلعلك » يا محمد « باخع نفسك على آثارهم » أي مهلك و قاتل نفسك على آثار قومك الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا تمردا منهم على ربهم « إن لم يؤمنوا » أي إن لم يصدقوا « بهذا الحديث » أي بهذا القرآن الذي أنزل عليك « أسفا » أي حزنا و تلهفا و وجدا بإدبارهم عنك و إعراضهم عن قبول ما آتيتهم به و قيل على آثارهم أي بعد موتهم لشدة شفقتك عليهم و قيل معناه من بعد توليهم و إعراضهم عنك و قيل أسفا أي غيظا و غضبا عن ابن عباس و قتادة و هذه معاتبة من الله سبحانه لرسوله على شدة وجده و كثرة حرصه على إيمان قومه حتى بلغ ذلك به مبلغا يقربه إلى الهلاك.