نظرتُ إلى الأرض أبحث عن مكان أهطل فيه.
فقد قررتُ أن أكونَ متفردة في هطولي كي لا أتبدّد عبثا.
أبصرتُ مجموعة من الأطفال يتقافزون حُفاةً فوق برك الماء، يطاردون كرة، ويُرددُونَ بفرح:
طاح المطر على الطين الله يسلّم فلسطين.
رأيت كهلا يجلس القرفصاء قريبا منهم يرقب الطيور الصغيرة البعيدة في السماء ويقول في سرّه:
"متى تتلون أحلام البؤساء"؟!.
حطّت الكرة فوق أنفه، فصحا على أطفال يقطفون عن وجنتيْهِ ثمار الصباح.
عبرتُ بين الأزقة المُوحلة وتسمرتُ قرب غرفة طبيب نحيل يرتدي ثوب البرّ.
ينظر من النافذة..
يراقب العصافير الصغيرة البعيدة ويحلم أن تحطّ ذات أمل على كتفه..
يعود من تيهه إلى المرأة العجوز التي انتهى لتوه من الكشف عن سبب أوجاع صدرها.
يرقب يديها بتوجس.
تحاول المرأة فكّ صُرّة لتغوص داخلها وتحفن منها ملء راحتها قطعا نقدية
نحاسيّة صغيرة، صغيرة.. تبعثرها أمامه على المنضدة وعيناها تتوسلان أن
يرضى بهذه الذبائح الشحيحة.
يتنهد الشاب ويقول وقد حشرج صوته في حلقه:
• ضُبّي نقودك يمّا، الدنيا لسّة بخير.
تتدفق أنهار من الحنان في عروق المرأة.
تقترب من الشاب، تحضنه وتلفّ كتفيه بثوبهاالخمري المُبرقش بالقطب الفلسطينية الكالحة..
فيزهرُ اللوز على أشجار القلب.
وأواصل أنا رحلتي كأنني فراشة خرجت للتو من شرنقة..
اقتربتْ فتاةٌ تفتح نافذةً، فاقتربتُ منها.
وسرعان ما عادت إلى الداخل تسير بخطوات متعثّرة فأدركتُ أنّها كفيفة.
جلستْ قُرب المرأة العجوز تقول لها:
يمّا، أشتهي اليوم طبخة فريكة.
تتحسس العجوز جيب معطفها،
لا تعثر إلاّ على بضع ورقات نقدية والشهر ما زال في أوّله.
لا تتأفف. تبتهل: إلهي، أعطنا خبزنا كفاف يومنا.
تهتف بحنوّ لسَعْدَة:
-تعالي نحصل على قسط من الراحة، وحين نستفيق ربّك بيفرجها.
عندما تستيقظ تعثر على دجاجة في المطبخ فلا تشغل بالها بمصدر رزقها بل تشرع في اعداد الفريكة.
بينما هي منهمكة في عملها يصل ابنها فيخبرها أن أحد الرجال زار المشفى،
وفي يده بعض الدجاجات أتى بها للطبيب الذي استأصل الرصاصة من أحشائه دون أن يتوفر له ثمن العلاج،
وحين رأى سعد في الرواق، رقّ قلبه وأعطاه دجاجة.
حدقت الأم في السماء البعيدة.
رأت عصافير صغيرة كثيرة، كثيرة.. احتضنتْ ابنها.
أحاطتْ عنقه بضفيرة شعرها الشائب،
فحطّ كروانٌ على سقف أحلامها.
أخذتُ أتقافز بفرح كما العصافير الصغيرة في بيادر قمح،
إلى أن رأيتُ امرأة عجوز تكاد بشرتها تكون كقشرة برتقالة جافة.
رأيتُ الحزن في تجاعيد وجهها كماء يتسرّب بين شقوق أرض عطشى.
تقرفص بسكُون فوق الأرض، تعلو الهتافات حولها، كلّ يستنكر على طريقته هدم
منزلها، أما هي فقد كانت تراقب الغبار الذي تراكم فوق شجرة الصبّار
الشاهدة على هدم مأواها، عشّ أحلامها.
دفنتْ هواجسها في الرمال وأخذتْ تحلم براعٍ يسوق قطيعَ آمالها إلى مرعى أخضر.
تنهدتْ بصمت، تتمنى ولو عَبْرَةً واحدة تجفف حُرقة قلبها.
نظرتْ إلى فوق، تستجدي عون السماء. لمحتْ عصافيرََ كثيرة، بعيدة، بعيدة.
تنهدتْ بحُرقة. راحتْ تناجي روحها:
- آآآخ.. كيف تحطّ العصافير فوق طبق القلب إذا كانت الأرض غارقة في الطوفان..؟!
بغتة، التقتْ نظراتنا. رقّ قلبي لهذي المرأة الشامخة كنخلة، الصامدة كشجرة زيتون في تربة خصبة.
قررتُ أن أهبطَ إليها لأخففّ عنها خَلّ تلك اللحظة.
قفزتُ داخلَ عينها وهناك بدأتُ اتضاعف برويّة.
فجأة,أجهشتِ المرأة في البكاء.