الدولة : عدد المشاركات : 73740 نقاط : 111480 تاريخ التسجيل : 30/01/2010 العمر : 36 الجنس :
موضوع: قصة رجل من أفضل علماء اللغة العربية (سيبويه) الأربعاء فبراير 03, 2010 1:07 pm
(سيبويه)
نسبه و موطنه:
هو عمرو بن عثمان بن قِنْبَر، أبو بشر، إمام النحاة، حجة العرب، وأول من بسط علم النحو، وصاحب "الكتاب" حجة
العربية ودستورها.
وسِيبَوَيْهِ هو لقبه الذي اشتهر به حتى غطى على اسمه وكنيته، وهو لقب فارسي معناه بالعربية "رائحة التفاح"، وقال
إبراهيم الحربي: سمي سيبويه لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان في غاية الجمال، وقيل: إنما سمي سيبويه لأن أمه
كانت ترقصه وتقول له ذلك، وقيل: معنى "سي" بالفارسية ثلاثون، ومعنى "بويه" رائحة، فكأن معناها: الذي ضوعف
طيب رائحته ثلاثين مرة.
وهو فارسي الأصل، حيث ولد في مدينة البيضاء من أرض فارس، وهي أكبر مدينة في إصطخر على بعد ثمانية فراسخ
من شيراز، وذلك في نحو عام أربعين ومائة من الهجرة على الأرجح، وقد قدم البصرة وهو غلام صغير؛ فكان منشؤه بها.
حياته:
من أرض فارس قدم سيبويه إلى البصرة، حيث مراكز العلم ومنابر العلوم، وقد كان شابا حسنا جميلا نظيفا مفرط الذكاء،
إلا أنه كان فيه حبسة في عبارته.
ومع حداثة سنه فقد انطلق يصحب أهل الحديث والفقهاء حيث ميله ومراده، فكان يستملي على حماد بن سلمة في حلقته
ليكتب الحديث ويرويه، ويشاء الله أن يكون لغير ما طلب وما أراد أولا؛ فقد سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له: أحدثك
هشام ابن عروة عن أبيه في رجل رعُف في الصلاة، بضم العين، فقال له حماد: أخطأت، إنما هو رعَف بفتح العين،
فانصرف سيبويه إلى الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال له الخليل: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورعف
بضم العين لغة ضعيفة.
ثم يتكرر الموقف مرة أخرى، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي إلا من
لو شئت لأخذت عليه، ليس أبا الدرداء" فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء بالرفع، وقد خمنه اسم ليس، فقال له حماد: لحنت
يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس ههنا استثناء، فكان أن أنف سيبويه من ذلك وقد أخذ قراره فقال: "سأطلب علماً
لا تلحنني فيه"، فكانت هذه هي البداية!
شيوخه:
بعد قراره الأخير هذا عمد سيبويه إلى إمام العربية وشيخها الخليل بن أحمد الفراهيدي، لينهل ويتعلم منه عن حب وعزيمة
وقوة إرادة، فصار يلازمه كالظل حتى لقد بدى تأثره الكبير بشيخه هذا على طول صفحات كتابه الوحيد وعرضه في
رواياته عنه واستشهاداته به.
فلم يمل سيبويه مجالسة الخليل ولم يفتر أو يتكاسل عنه، حتى لقد قال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل
سيبويه، فقال الخليل: مرحباً بزائر لا يمل، قال أبو عمر المخزومي - وكان كثير المجالسة للخليل: ما سمعت الخليل
يقولها لأحد إلا لسيبويه.
ولأجل هذا فقد قيل: إنه نجم من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان سيبويه، والنضر بن شميل، وأبو فيد مؤرج
العجلي، وعلي بن نصر الجهضمي، وكان أبرعهم في النحو سيبويه، وغلب على النضر بن شميل اللغة، وعلى مؤرج
العجلي الشعر واللغة، وعلى علي بن نصر الحديث.
ولم يكتف سيبويه بشيخه الخليل بن أحمد في علوم النحو والعربية، بل إنه استزاد من ذلك شأن أقرانه في ذلك الوقت،
فتتلمذ أيضا على يد أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر، وعيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وأبي زيد النحوي
وغيرهم.
علمه و مناظراته:
بهذه الهمة العالية، وفي هذه السن المبكرة، بز سيبويه وأجاد، فكان أن تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب
بسهم، فبرع وساد أهل العصر، حتى إنه ليروى عن الزراري أبي زيد أنه قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه
السمكة؟ قال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السماك: ويلك أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
فكان علم سيبويه قد طغى وظهر على من في البصرة كلهم، حتى ليكاد يستشهد به الرجل العادي في شئون حياته
ومعاملاته اليومية، ومما يروى فيما جاء عن علمه ما حدّث به محمد بن سلام حيث قال: كان سيبويه جالساً في حلقته
بالبصرة فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة، فذكر حديثاً غريباً وقال: لم يرو هذا إلا سعيد بن أبي العروبة، فقال بعض ولد
جعفر بن سليمان: ما هاتان الزائدتان يا أبا بشر (يقصد سيبويه)؟ فقال: هكذا يقال؛ لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال
ابن عروبة فقد أخطأ. قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس فقال: أصاب لله درّه.
ومثله أيضا ما حدث المازني حيث قال: قال الأخفش: كنت عند يونس فقيل له: قد أقبل سيبويه فقال: أعوذ بالله منه.
قال: فجاء فسأله فقال: كيف تقول: مررت به المسكين، فقال: جائز أن أجره على البدل من الهاء. قال: فقال له: فمررت
به المسكين على معنى: المسكينُ مررت به، فقال: هذا خطأ؛ لأن المضمر قبل الظاهر. قال: فقال له: إن الخليل أجاز
ذلك وأنشد فيها أبياتاً، فقال: هو خطأ، فغمني ذلك.
قال: فمررت به المسكينَ؟ فقال: جائز، فقال: على أي شيء ينصب؟ فقال: على الحال. فقال سيبويه: أليس أنت أخبرتني
أن الحال لا تكون بالألف واللام؟ فقال له: صدقت. ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال
لي: إنه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا! ورأيته مغموماً بقوله: نصبته على الحال.
ولما كان عليه سيبويه من علو الهمة وتمكن الحال، وثقته بعلمه، فقد قدم إلى العراق على يحيى بن خالد بن برمك، وهو
- كما قيل - ابن اثنتين وثلاثين سنة، فسأله عن خبره فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي (كبير النحاة الكوفيين)،
فقال: لا تفعل؛ فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه، فأبى إلا أن
يجمع بينهما، فعرف الرشيد خبره فأمره بالجمع بينهما فوعده بيوم.
فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد، فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه،
فسأله الأحمر عن مائة مسألة فما أجابه عنها بجواب إلا قال أخطأت يا بصري، فوجم سيبويه وقال: هذا سوء أدب.
ثم وافى الكسائي وقد شق أمره عليه ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري، كيف تقول: خرجت وإذا
زيد قائم؟ قال: خرجت وإذا زيد قائم، قال: فيجوز أن تقول: خرجت فإذا زيد قائماً؟ قال: لا.
قال الكسائي: فكيف تقول: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزُّنبُور (الدبور)، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال
سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: لحنت؛ العرب ترفع ذلك كله وتنصبه، وخطأه الجميع، ودفع
سيبويه قوله وأنكره، فقال يحيى بن خالد وكان وزيرًا للرشيد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما وهذا
موضع مشكل؟
وكان الأمر قد دُبِّر بليل، فقد انتهز الكسائي هذه الفرصة السانحة وقال: هذه العرب ببابك، وقد جمعتهم من كل أوب،
ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون
ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم.
دخل الأعراب وكان فيهم أبو فقعس، وأبو دثار، وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما فأتت المؤامرة أُكلها،
وتابعوا الكسائي على قوله بإجازة الرفع والنصب، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فانصرف المجلس
على سيبويه، فانقطع سيبويه واستكان، وانصرف الناس يتحدثون بهذه الهزيمة التي مُني بها إمام البصريين.
وقال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن لا يرجع خائباً فعلت، فأمر له بعشرة آلاف درهم،
فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس، ولم يعرج على البصرة، وأقام هنالك مدةً إلى أن مات كمداً، ويروى أنه ذربت معدته
فمات، فيرون أنه مات غماً.
وحول الخلاف الذي حدث في هذه المناظرة، فقد قال أبو الحسين علي بن سليمان الأخفش: وأصحاب سيبويه إلى هذه
الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب كما قال سيبويه، وهو: فإذا هو هي، أي فإذا هو مثلها، وهذا موضع رفع وليس
بموضع نصب.
فإن قال قائل: فأنت تقول: خرجت فإذا زيد قائم وقائماً فتنصب قائماً، فلم لم يجز فإذا هو إياها؟ لأن إيا للمنصوب وهي
للمرفوع؟
والجواب في هذا أن قائماً انتصب على الحال وهو نكرة، وإيا مع ما بعدها مما أضيفت إليه معرفة، والحال لا تكون إلا
نكرة فبطل إياها، ولم يكن إلا هي وهو خبر الابتداء، وخبر الابتداء يكون معرفة نكرة، والحال لا يكون إلا نكرة، فكيف
تقع إياها وهي معرفة في موضع ما لا يكون إلا نكرة؟ وهذا موضع الرفع.
وقد قال أصحاب سيبويه: الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم.
وما كان من أمر فقد شهد لسيبويه القاصي والداني والقريب والبعيد، حتى لقد قال معاوية بن بكر العليمي وقد ذكر عنده
سيبويه: رأيته وكان حديث السن، وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم
ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فقلمه أبلغ من لسانه.
فما هو كتابه هذا الذي كان قلمه فيه أبلغ من لسانه رغم تفوقه به في مناظراته؟
الكتاب:
ذكر صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس في كتابه قال: لا اعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها
فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها: المجسطي لبطليموس في علم هيئة
الأفلاك، والثاني: كتاب أرسططاليس في علم المنطق، والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم
يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له.
وإن العجب لا يكمن فقط في أنه - كما قال الجاحظ - كتاب لم يكتب الناس في النحو مثله، وجميع كتب الناس عليه
عيال، بل إن العجب أيضا في اسمه ورسمه؛ فقد درج كل العلماء والمؤلفين على أن يضعوا أسماء لمؤلفاتهم ومصنفاتهم،
إلا أن سيبويه في كتابه هذا قد شذ عن تلك القاعدة، ولم يضع لكتابه اسمًا، بل لم يضع حتى مقدمة أو خاتمة، فأطلق عليه
العلماء اسم "الكتاب"، حتى صار لشهرته وفضله علماً عند النحويين، فكان يقال: قرأ فلان الكتاب مجردًا من أي وصف،
فيعلم أنه كتاب سيبويه، وقرأت نصف الكتاب ولا يشك في أنه كتاب سيبويه.
وأغلب الظن أن القدر لم يمهل سيبويه كي يخرج الكتاب في شكله المتعارف عليه إلى أيامنا هذه؛ حيث توفي - رحمه الله - في ريعان شبابه وقبل أن يخرج الكتاب إلى النور، وكان الذي أخرجه هو تلميذه أبو الحسن الأخفش دون وضع اسم
له.
مكانة الكتاب و اهميته:
"بلغ كتاب سيبويه القمة فيما وصلت إليه الدراسات النحوية في أواخر القرن الثاني الهجري بعد أن صنع فيه مؤلفه أعظم
ما يصنع عالم لموضوعه، إذ آتاه حقه من التقصي والاستيعاب، ومن الدرس والنقد، وجهد ما أسعفه الجهد الكبير، والعقل
المستنير لتحرير المسائل وترتيب الموضوعات حتى استحق كتابه في النحو والصرف أن يكون الكتاب، واستحق هو به
أن يكون في النحويين الإمام". (عن موقع مكتبة الكتاب العربي).
وإن مكانة كتاب سيبويه لتبرز في هذا النص الذي يرويه الجاحظ، حيث يقول: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك
الزيات وزير المعتصم، ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت له: لم أجد
شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال: والله ما أهديت لي شيئاً أحب إلي منه.
قال ابن خلكان: ورأيت في بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره،
فقال له ابن الزيات: أوَ ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب؟! فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء ومقابلة
الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، يعني نفسه، فقال ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد وأعزها، فأحضرها إليه،
فسر بها ووقعت منه أجمل موقع.
وقد كان محمد بن يزيد المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر؟! تعظيماً له واستصعاباً
لما فيه.
وقال ابن كثير: وقد صنف سيبويه في النحو كتابا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره،
واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره.
وليس هناك أبلغ من قول المازني: من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.
وعن الأمانة العلمية فيه فقد حدث أبو عبيدة قال: لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب: إن سيبويه قد ألف كتاباً في ألف
ورقة من علم الخليل، قال يونس: ومتى سمع سيبويه هذا كله من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلما نظر فيه رأى كل ما حكى
فقال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه كما صدق فيما حكاه عني.
منهج سيبويه في "الكتاب":
"كثيرًا ما يوضح الكتّاب مناهجهم في بداية كتبهم، ولكن الوضع معنا يختلف؛ فسيبويه لم يتمكن من وضع مقدمة لكتابه،
يوضح فيها المنهج الذي سلكه في ترتيبه؛ ولذلك بقي منهج الكتاب لغزًا عصيًّا على الإدراك، حتى مضى بعض الباحثين
إلى أن سيبويه لم يكن يعرف المنهج، وإنما هو قد أورد مسائل الكتاب متتابعة دون أي نظام أو رباط يربط بينها. ولو
كان مؤلف الكتاب شخصًا آخر غير سيبويه، لجاز أن يسلم بهذا الرأي على ضعفه، أمَا والمؤلف سيبويه فمن الواجب أن
ننزهه عن هذا.
وهنا ينبري شيخنا علي النجدي يحدثنا عن منهج سيبويه، فيقول: نهج سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطبع،
يدرس أساليب الكلام في الأمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأي فيها صحة وخطأ، أو حسنًا وقبحًا، أو كثرة وقلة، لا يكاد
يلتزم بتعريف المصطلحات، ولا ترديدها بلفظ واحد، أو يفرع فروعًا، أو يشترط شروطًا، على نحو ما نرى في الكتب
التي صنفت في عهد ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم.
فهو في جملة الأمر يقدم مادة النحو الأولى موفورة العناصر، كاملة المشخصات، لا يكاد يعوزها إلا استخلاص الضوابط،
وتصنيع الأصول على ما تقتضي الفلسفة المدروسة والمنطق الموضوع، وفرق ما بينه وبين الكتب التي جاءت بعد
عصره كفرق ما بين كتاب في الفتوى وكتاب في القانون، ذاك يجمع جزئيات يدرسها ويصنفها ويصدر أحكامًا فيها، والآخر
يجمع كليات ينصفها ويشققها لتطبق على الجزئيات.
ويمكن أن يقال على الإجمال: إنه كان في تصنيف الكتاب يتجه إلى فكرة الباب كما تتمثل له، فيستحضرها ويضع المعالم
لها، ثم يعرضها جملة أو آحادًا، وينظر فيها تصعيدًا وتصويبًا، يحلل التراكيب، ويؤول الألفاظ، ويقدر المحذوف،
ويستخلص المعنى المراد، وفي خلال ذلك يوازن ويقيس، ويذكر ويعد، ويستفتي الذوق، ويستشهد ويلتمس العلل، ويروي
القراءات، وأقوال العلماء، إما لمجرد النص والاستيعاب وإما للمناقشة وإعلان الرأي، وربما طاب له الحديث وأغراه
البحث، فمضى ممعنًا متدفقًا يستكثر من الأمثلة والنصوص. واللغة عنده وحدة متماسكة، يفسر بعضها بعضًا، ويقاس
بعضها على بعض، وهو في كل هذا يتكئ في ترتيب أبواب الكتاب على فكرة العامل أولاً وأخيرًا". (عن موقع إسلام
أون لاين).
وعن "الكتاب" بإجمال فقد قال محمد بن يزيد: "لم يُعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه؛ وذلك أن الكتب
المصنّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج مَنْ فَهِمَه إلى غيره".
تلاميذ سيبويه:
لأن القدر لم يمهله طويلا، حيث توفي في ريعان شبابه وقبل جماعة قد كان أخذ عنهم كيونس بن حبيب وأبي زيد النحوي
- فلم يكن له تلاميذ كثيرون، وكان من أبرز من تتلمذوا على يديه ونجم عنه من أصحابه: أبو الحسن الأخفش، وهو
الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة، وقطرب، وهو أبو علي محمد بن المستنير، ويقال أنه إنما سمي قطرباً أن
سيبويه كان يخرج فيراه بالأسحار على بابه فيقول له: إنما أنت قطرب ليل. (القطرب دويبة تدب).
وقال أبو العباس: كان الأخفش أكبر سناً من سيبويه، وكانا جميعاً يطلبان. قال: فجاءه الأخفش يناظره بعد أن برع فقال
له الأخفش: إنما ناظرتك لأستفيد لا لغيره، أتراني أشك في هذا.
وفاته:
أغلب الظن أن وفاة سيبويه لم تكن طبيعية؛ فإنه حين علم أنهم (بعد مناظرة الكسائي) تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي،
خرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه، وقصد بلاد فارس ولم يعرج على البصرة، وأقام هنالك مدةً إلى أن
مات كمداً، ويروى أنه ذربت معدته فمات، فيرون أنه مات غماً كما ذكرنا، وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف
عريض، والراجح من الأقوال أن ذلك كان في سنة ثمانين ومائة من الهجرة.
وفي مرضه الذي توفي فيه قيل أنه تمثل عند الموت:
يؤمل دنيا لتبقى له... فمات المؤمل قبل الأمل
يربي فسيلا ليبقى له... فعاش الفسيل ومات الرجل
ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال:
وكنا جميعا فرق الدهر بينن... إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا
وقال الأصمعي: رأيت على قبر سيبويه بشيراز هذه الأبيات، وهي لسليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة... لم يؤنسوك، وكربة لم يدفعوا.
قضيا لقضاء وصرت صاحب حفرة... عنك الأحبة أعرض وتصدعوا
معلش على الاطالة لكن مع كثرة هذه السطور لا تكفي لرواية قصة هذا الرجل العظيم