الدولة : عدد المشاركات : 73740 نقاط : 111480 تاريخ التسجيل : 30/01/2010 العمر : 36 الجنس :
موضوع: لأننا خُلقنا للحب السبت مارس 19, 2011 6:06 am
لأننا خُلقنا للحب
كان لقاؤهما الأول فى البنك الذى تعمل به. ثمة مشكلة فى الإجراءات احتاجت تدخلها. كان ممكنا أن تُحلّ المشكلة فى دقائق ويغادرها. كان ممكنا أن يزدحم المكتب وتنشغل بالعمل. لسبب ما كانت منتعشة هذا اليوم. الطقس شتائى مشمس تصاحبه النسمات الباردة، وثمة غيوم تنذر بمطر منعش يغسل الكون ويغسلها. وعبير القهوة ينبه حواسها إلى أن الحياة - رغم الأحزان - حلوة، وتستحق أن نعيشها. والعمل هادئ على غير العادة فى هذا الصباح.
دخل «العميل» هذه اللحظة مع موظفة تحت رئاستها. حتى هذه اللحظة لم يكن أكثر من «عميل». لم يكن قد أصبح حبيبا بعد!. بل حتى لم تكن تعرف اسمه. انشغلت هى فى حل المشكلة، وانشغل هو فى بحيرة العسل بعينيها. خلع معطفه وطواه فى إهمال. فاح عطره فى الغرفة فاستنشقته بعمق. عاشقة هى للعطور، ولأشياء صغيرة، كثيرة، بسيطة، رائعة تصنع الحياة.
لسبب ما لم تستطع أن تنجز المعاملة فى نفس اليوم، لسبب ما باسطته الحديث فارتاحت إليه، لسبب ما حين جاء فى اليوم التالى استقبلته بألفة صديق قديم. لكن حينما جد الجد، وشعرت بالرجل داخله يفتش عن الأنثى، فإنها سرعان ما انسحبت إلى حصنها الحصين.
هذه أشياء تعرفها المرأة بالفطرة. من يهتم بها، ولماذا؟ أصياد يستبيح صيدها أم عاشق يتعهد أرضها؟، وكانت الإجابة: نعم. هذا الرجل جدير بثقتها. لكنها غير مستعدة للحب الآن. تكفيها جراح التجربة الماضية.
لكن ماذا تفعل وهو يُصرّ أن يطرق بابها بلطف، يتحمل جفاءها، وكأنه يعرف أنه مصطنع!. ماذا تفعل إذا كان يُضْحكها وينقل لها إحساسه بالتفاؤل، يخبرها بأن الحياة رائعة، ويوم واحد بلا فرح هو يوم ضائع من أعمارنا!.
أخبرته بقصة حبها الفاشلة، وأخبرها بحزنه العظيم على زوجته الراحلة، وتعاهدا أن يبدآ مع الأيام صفحة جديدة. كان الوقت يمضى، وكل شىء فيه يدفعها للثقة. مجرد النظر إلى عينيه يُشعرها بالطمأنينة. تستطيع أن تسلمه حياتها، واثقةً أنه لن يُضيّعها.
.............
لذلك كانت مفاجأتها كاملة حينما لم يحضر فى الموعد المقرر. صدمة لم تكن مستعدة لها. كان قد طلب منها مرارا أن يتعرف على أهلها، ويطلبها منهم. وكانت تستمهله. وأسعدها أنه يبدو لحوحا، متلهفا.
استعدت للمناسبة. شاع الفرح فى البيت. توهج خدها كمراهقة. جاء أشقاؤها ليقابلوه وكل منهم يحمل دعابة. وهى تسير بينهم كالفراشة. اتصالات صديقاتها لم تنقطع. حتى أمها طريحة الفراش ارتدت أجمل ملابسها.
كانت تعرف أنه دقيق فى مواعيده، لذلك حينما تأخر عن الموعد شعرت بالقلق، ليس منه وإنما عليه. اتصلت به فكان الهاتف مُغلقا. هذه الأشياء تحدث ولعله الآن سيطرق الباب.
لآخر لحظة ظل يراودها الأمل. لآخر لحظة ظلت تنظر إلى الباب مرهفة الحواس. كانت أصعب لحظات فى حياتها. ذكرياتها القديمة احتشدت أمامها. انطفاء وجه أمها، نظرات الإشفاق فى عيون أشقّائها. لاذت بالصمت، انسحبت إلى غرفتها. كانت ليلة لا تتمناها لألدّ أعدائها.
ثلاثة أيام لم تتصل به ولم يتصل بها. ثلاثة أيام هى الأسوأ فى حياتها. هل أظلمت الشمس وكفت أن تمنح نورها؟ لماذا يبدو الصباح سمجا ثقيلا مظلما؟ ولماذا تنطفئ شموع الروح وتُوصد أبواب الأمل؟، وحين تنظر إلى المرآة تبدو ناضبة، طاعنة فى الحزن، ذابلة.
...........
كان يمكن أن يستمر الأمر على هذا النحو، لولا أنها فى اليوم الرابع استردت نفسها. مستحيل أن تتخلى عن حبها بهذه البساطة، أو يمنعها الكبرياء من حقها فى الفهم؟. كان لحنا عذبا بسيطا رائعا، فهل من العدل أن تُكسرَ القيثارة وهى تتفرج!.
اختطفت حقيبتها فى عزم، انتفضت دون تخطيط مسبق، ذهبت إليه فى مقر عمله، قالوا إنه مُتغيب. سقط قلبها فى قدميها، ذهبت إلى بيته وهى تبكى. لماذا ظلمته؟ لماذا لم تستعصم بالثقة فيه، بعينيه الصافيتين الصريحتين. لو حدث له مكروه فلن تسامح نفسها.
..................
ضغطت على جرس بابه فى شجاعة. تأخر الرد. تصلبت أناملها على الجرس، وأخيرا فتح لها الباب، لكنه لم يكن هو. كان شخصاً هدّمه الحزن يقف أمامها.
انخرطت فى البكاء دون صوت. سالت دموعها مدرارا وهى تتأمله. ذقنه غير الحليقة، ملامحه المتهدلة، نظرة الفأر المحاصر فى ركن. ظل يرمقها فى عجز. دلفت إلى الداخل دون دعوة. جلست على الأريكة، وراحت تنظر إليه.
كان مكسورا، مهزوما من الداخل. ذهبت دعاباته الرقيقة، فارقته بشاشته. حاولت أن تستفهم منه لكنه لاذ بالصمت. عاملته كطفل. فى هدوء وصبر استطاعت أن تنتزع الحقيقة. أيام متتالية لم يستطع النوم. هاجمته ذكريات زوجته الراحلة. أول مرة شاهدها، أول مرة لاحقها، وتلك المشاعر الخيالية حين تصارحا، ليلة خطبتهما، حفل زفافهما، حياؤها، أيامهما السعيدة، وذلك الرباط الوثيق الذى ربط بين قلبيهما.
أيام مرضها المباغت، تأرجحهما بين الأمل واليأس. ثم آخر كلمة قالتها له، حين قبّل جبينها البارد، مشاعره لحظة دفنها، أيُعقل أن ينتهى كل هذا ويمنح أحضانه لامرأة أخرى؟ أليس من الخيانة أن يحب بعدها؟ أتراه لن يخطئ فى اسميهما؟ ولماذا حدث كل هذا!، إذا كنا نحب فلماذا نموت؟ وإذا كنا نموت فلماذا نحب؟.
استمعت إليه فى صبر، فى حنان أم تعرف كيف تعنى بطفلها. كان يمكن أن تنصرف غاضبة، أو تعاتبه وتحاسبه. لكنها بغريزة الأنثى أدركت أنه يحبها. وأن الصراع الناشب داخله دليل على وفائه وأصالة معدنه. لم تملك عواطفها، وراحت تهمس له أننا لا نصنع أقدارنا. وأنها تحبه، وأنه يحبها، وأنه يغلو بالوفاء فى نظرها، وستصبر عليه حتى يستعيد نفسه، ويفهم أن الحياة لابد أن تسير، والأحبة الراحلين يرون الأمر بمنظار أوسع، خال من الأثرة والأنانية. نحن فى الحقيقة خلقنا للحب، وبالحب فقط نُحقّق ذاتنا.
راحت تتكلم وهو يصغى إليها. ورغم أنه لم يتكلم فقد قرأت فى عينيه أنها استعادته، وأنها له، وأنه لها.