الدولة : عدد المشاركات : 5994 نقاط : 6755 تاريخ التسجيل : 16/11/2009 العمر : 34 الجنس :
موضوع: مامدى شجاعتك الثلاثاء نوفمبر 17, 2009 3:05 pm
على مقعد في تلك الحديقة الهادئة ، كان الثلاثة يتهامسون بجدية حينا و ينخرطون في ضحك جماعي حينا آخر ! و كان (يوسف) هو من يتكلم كثيرا بينما يكتفي الآخران بالإنصات والضحك. كانوا يحيكون خطة للإيقاع بـهشام الذي يراهن دائما أنه أشجع وأقوى شاب على وجه البسيطة !
وفي اليوم التالي ، خرجوا من محاضرة في الرياضيات و وقفوا - غير بعيد عن الباب - يرقبون الأفواج الآدمية المتدفقة من المدرّج وينتظرون ظهور (هشام) ليشرعوا في خطتهم التي راجعوها مرارا حتى حفظوها عن ظهر قلب.
و لما ظهر "الرجل الشجاع" بدأت القصة..
حياهم (هشام) مبتسما ابتسامته العريضة التي تكاد تتعدى وجهه ! فاستقبله الثلاثة بمرح و نشاط غير عاديين ! تحدثوا في البداية عن ملل المحاضرة وعن الأستاذ الذي يكره الطلبة ويريد لهم الهلاك و التشرد ! ثم بدأ (يوسف) الكلام و أدار دفته ببطء حتى أخذ يحكي لهم عن فلم رعب - وهمي - شاهده البارحة ، تدور أحداثه ليلا في مقبرة مخيفة ! ثم تساءل بعدها - بتهكم - عن الذي يستطيع أن يعيش نفس التجربة في المقبرة الخارجة عن المدينة ؟ وغمز بعينه من حيث لم يره (هشام) !
نظر الكل إلى هذا الأخير الذي بدا عليه الارتباك وقد التفت متظاهرا بالانشغال ، فسخر منه (أمين) واتهمه بادّعاء الشجاعة و بأنه مجرد كذّاب و محبّ للشهرة ! و كما كان متوقعا ، اغتاظ (هشام) و احمرّ وجهه و هو يدفع صدره للأمام و قبل التحدي فورا ! فصفق (أمين) بمرح جنوني مفتعل في حين تظاهر (عادل) بالامتعاض و الملل ، و عيّر (هشام) بالعجز قبل أن ينسحب متعللا بموعد هام !.. فزاد هذا من حنق (هشام) الذي أقسم ليفعلنّ ما قاله (يوسف) !
و مساء ذلك اليوم ، اجتمع الأربعة بنفس الحديقة و اتفقوا على كل شيء..
مع منتصف الليل ، ستأخذهم سيارة أجرة إلى تلك المنطقة بحيث يبقون بعيدين عن المقبرة. و سيذهب (هشام) لوحده و يدخل إلى هناك حتى يتوغل وسط القبور ! ولإثبات أنه فعل المطلوب عليه دقّ وتد بالأرض كي يتأكد الآخرون - في الصباح - من صدقه. و ليعترفوا أنه شجاع فعلا و لا يُشق له غبار ، كما يدّعي !
* * *
ربع ساعة بعد منتصف الليل..
لازالت السيارة تشق طريقها المظلم - في صمت - إلى آخر مكان يرغب أي إنسان في الذهاب إليه !
كانوا يتبادلون النظرات الجانبية و يبتسمون بنشوة لِما ينتظرهم من تشويق. أما (هشام) أو "الرجل الشجاع" - كما يسمونه - فكان صامتا كالقبر ، شارد الذهن ، ينظر إلى شيء وهمي أمامه ! ولم يلمه أحدهم على ذلك.
و بعد وقت وجيز صاح (يوسف) في السائق أن حسبك و قال لهشام بأنهم سينتظرونه هناك و أن بسم الله ابدأ !
ترجّل (هشام) ببطء من العربة العجوز التي تئن وسط الظلام الساكن ، وألقى نظرة أخيرة على أصحابه الذين كانوا بين ضاحك و مبتسم و متشكك !
أخرج مصباحا يدويا وانطلق في طريقه المهجور إلى حيث مرقد الأموات !
ترجلوا بدورهم من السيارة و وقفوا تحت شجرة بجانبها ، يشيعونه بنظراتهم وهو يبتعد بحذر.. حتى اختفى تماما !
* * *
ما مدى شجاعتك ؟
* * *
ضحك السائق بعد أن أشعل سيجارة ثم أسند مرفقه إلى سطح العربة وقال بأنه فهم ما يريدون ولكنه شيء خطر ولا يعلم المسكين ما ينتظره هناك ! فردّ عليه (يوسف) أنه تحدّ فقط و هو من قبله و رحب به عن طيب خاطر.
وهكذا مضى الوقت و هم يدردشون ويتكلمون هنا وهناك حتى سمعوا الصرخة !
كانت صرخة استغاثة طويلة رهيبة ! عرفوا صاحبها فورا ، فهرعوا إلى السيارة التي ولجها السائق بلهفة وانطلق بها إلى مصدر الصرخة.. الذي يعلمونه كلهم !
* * *
وصلوا إلى باب المقبرة ، وانفتحت الأبواب قبل أن تسكن العربة. ترجلوا بوجل و أمارات الرعب بادية على وجوههم !
قد توقف الصراخ ، لكنهم يسمعون صوت بكاء خفيض !
اقتربوا بحذر وهم ينظرون إلى بعضهم بذعر و نادوا على (هشام) متجاوزين البوابة ، يتقدمهم (أمين) !
* * *
ما مدى شجاعتك ؟
* * *
كان (هشام) ملقى على الأرض ! منهارا ، يبكي و يمسح عينيه بتوتر !
انتصب مكانه ما إن رآهم وأطلق جام غضبه عليهم ! سبهم وقال أشياء لا معنى لها قبل أن يبتعد غير عابئ بتهدئتهم ولا بأسئلتهم الكثيفة وهم يتبعون خطواته السريعة !
صاح (عادل) متسائلا لما انتبه إلى أن (هشام) بلا معطف ! لكن هذا لم يُبالِ و واصل هرولته العنيفة ، وبعصبية ركب السيارة التي تنتظر و ركبوا من بعده.. و انطلقت السيارة !
* * *
استطاع السائق الشاب أن يهدئ قليلا من روع (هشام) وهو يربت على كتفه و يمازحه. أما هو فكان ينظر إلى الظلام من خلال النافذة ، متجاهلا أصدقائه الذين يضجون خلفه !
طأطأ برأسه شارد الذهن ، ولبث كذلك لحظات قبل أن يضحك فجأة ضحكة هستيرية ! ويلتفت إلى الوراء حيث يجلس الآخرين ، فاغرين أفواههم من عدم الفهم ! و بابتسامة خبيثة على طرف فمه قصّ عليهم ما حدث بالضبط !
قال لهم أن الرعب تملّكه لما اقترب من البوابة وأحسّ بركبتيه ترتعشان رغما عنه ، لكنه عضّ على شفتيه وأقسم أن يدخل مهما كان الثمن.
دخل ، إلا أنه لم يتوغل كما وعدهم لشدة الظلام وذلك الجو المقبض الذي يشوّك الشعر ! وإنما عمد إلى مكان قريب جدا من الباب - حيث وجدوه - وانحنى بسرعة يدق الوتد اللعين في الأرض كما اتفق.
كان يمسك المصباح بين فكيه ، ويلتفت بذعر يمنة ويسرة ثم يدق الوتد بحجر دقات خفيفة ، ثم يعاود الالتفات وقد فقد كل تركيز و أصبح كتلة مرتعشة يملؤها الرعب حتى النخاع !
لم يضرب الوتد في الأرض عميقا ، لكنه قرر الاكتفاء والمغادرة فورا لمّا هاجمته خواطر غير مريحة ! وبدأت تتراءى له خيالات غير عادية !
هنا وقعت الواقعة ! فما إن انتصب مغادرا حتى انجذب إلى الأرض بعنف وسقط على وجهه وقد جحظت عيناه.. ليملأ الدنيا صراخا !
* * *
ما مدى شجاعتك ؟
* * *
توقف عن السرد وضحك من جديد ضحكته الغريبة ! فصرخوا في وجهه جميعا و نظروا إليه شزرا ليتم القصة !
كبح ضحكته و عاد للحكي..
قال أنه بدأ يبكي ويتلوى مكانه محاولا الفرار ، إلا أنه كان مثبتا ! شيء ما كان يجره إلى الأرض !؟
و وسط الفزع الأسود ذاك ، لمح ما يمسكه..
إنه الوتد !
فقد دقّه - بالخطأ - على طرف معطفه الطويل وهو يجلس القرفصاء في غمرة الخوف والتوتر والظلام !
بلا إضاعة لمزيد من الوقت ، هرع يتحرّر من معطفه ولم يكد يفعل حتى رأى السيارة تركن أمام الباب ورآهم يخرجون منها مذعورين !
تملّكه الغضب لأنه فزع وبكى من أجل شيء تافه ! لذلك تجاهلهم وتجاهل معطفه الذي بقي مثبتا إلى الأرض بالوتد !
ضحك كل من في السيارة بصوت عالٍ وقد دخلوا المدينة من جديد ولاحت أضواءها.
صاح (يوسف) بأن (هشام) نجح في الامتحان وأنه يستحق وسام الشجاعة رغم أن الوتد صرعه !